الأحد، ٢١ أكتوبر ٢٠٠٧

الحان راقصة ـ قصة قصيرة

الحان راقصة

قصة محمود البدوى

عشقت الموسيقى وأنا طالب فى المدارس الثانوية إلى درجة الجنون .. وكانت تأخذ منى كل فراغى .. وكل وقتى .. وبعد عامين من دراسة " النوتة " أخذت أتلقى دروسا خاصة فى الكمان على يد سيدة نمساوية .. كانت تسكن فى شقة صغيرة علوية .. بشارع حسن الأكبر .. وكانت أرملة فى الخامسة والأربعين .. فقيرة وفنانة من طراز لايشق له غبار ..
وكانت تعطى دروسا فى البيانو والكمان للسيدات والطلبة الذين يعشقون الموسيقى نظير أجر بسيط لايتجاوز جنيها فى الشهر .. ومع هذا فقل من يسير معها إلى نهاية الشوط .. فنصف العشاق كان يتخلف فى أول الطريق بعد أن يدركه التعب واليأس .. ونصفهم الباقى كان يتكاسل ويترنح .. ويجىء يوما ويغيب عشرة ..
ولكن هذا لم يكن يغير شيئا من طريقة حياتها ..
وكنت ألاحظ أنها تعيش ككل أنثى فى مثل سنها وادعة مستكينة ولكنها كانت تكثر من شرب النبيذ .. وكنت أرى الزجاجات الفارغة فى المطبخ تصل إلى السقف ..
وكانت تراعى مصلحة تلاميذها .. وتعلم .. وفقا لبرنامج مرسوم .. وكان معظم طلابها من هواة الكمان وندر من كان يتعلم البيانو ..
وكان من عادتها أن تستقبلنى بفنجان من القهوة .. تجىء به من المطبخ وتجلس أمامى وتشرب ..
وكانت رقيقة جياشة العواطف تفيض مشاعرها .. على الجميع .. ولم أكن أعرف أتزوجت من قبل .. ورزقت بأطفال أم عاشت طول حياتها عانسا كما أراها الآن ..
وكان معظم تلاميذ السيدة هيلين من دون العشرين .. وكانت الدراسة تستمر فى بيتها إلى الساعة التاسعة ليلا ..
وكان يقوم على خدمتها شاب يدعى سيد وكان سريع الحركة يعفيها من طلوع السلالم العالية ويقضى لها كل ما تحتاجه من السوق .. وكان يأتى فى المساء فقط لأنه يعمل إلى الغروب فى محل تجارى فى شارع جامع البنات ..
وكان مرحا لاتفارق الابتسامة وجهه .. ولايشكو من أى شىء .. على الاطلاق ..
وكانت السيدة هيلين تقول لى أنه لاعيب فيه سوى أنه يشرب النبيذ .. ويحسبه " تمر هندى " .. وكنت أضحك لهذا .. ويضحك سيد ..
وكانت الحياة بالنسبة لها بسيطة ولكنها كانت تعتمد على شىء غير ثابت يتغير تبعا لمقتضيات الأحوال .. ولهذا كنت أراها أحيانا واجمة .. ووجهها أخرس ..
كانت ترى الشيخوخة والعجز وقلة الحيلة .. تقترب منها وشيكا .. ولا تستطيع هى عمل أى شىء على الاطلاق .. فتضع يديها على عينيها كأنها تتقى بهما الصاعقة ..
وكان درسى يبدأ من الساعة الثامنة ثلاث مرات فى الأسبوع .. وكانت تعطينى أكثر من الوقت الذى أستحقه .. لأنها وجدتنى أتقدم .. وكانت تعلق علىَّ الآمال ..
وكانت فنانة أصيلة .. ولقد امتزجت حياتها بجو القاهرة وأحبتها وأحبت أهلها .. وأحبت التلاميذ الذين تعطيهم الدروس كأنهم قطعة من قلبها ..
وكانت صديقة .. تسألنا عن أحوالنا ومدارسنا ومعيشتنا وكان يكربها أننى أعيش فى القاهرة .. وحدى .. وأسرتى بعيدة فى الريف .. وكانت تسألنى كيف آكل .. ومن الذى ينظف لى ملابسى وبيتى .. والواقع أن هذه كانت مشكلة ضخمة ولكننا لم نكن نفكر فيها .. لأننا كنا نعيش كما اتفق ..
وكان الذين لايحبون الفنون مثلنا .. يحسون بالفراغ والانقباض .. فينطلقون إلى المواخير ..
وكان درسى فى الواقع هو آخر الدروس .. ولقد اخترته فى الساعة الثامنة لأنى كنت أسكن قريبا منها .. وأحب أن أذهب إليها بعد الفراغ من دروسى المدرسية ..
وكانت تستعمل طريقة محببة إلى كل نفس .. ولكننى كنت أعانى من تلف الأعصاب أحيانا وأكتفى بأن أسمع منها مقطوعة كلاسيكية .. أو افتتاحية قصيرة .. وأنا جالس شارد مضيع ..
وكانت السيدة هيلين بيضاء الوجه وطويلة .. وتركت الشيب يزحف إلى شعرها ولم تغطه بالأصباغ ..
وكانت بعد الدرس تجلس أمامى تتعشى وتتحدث وتفيض فى كل الشئون وكانت هذه الجلسات قد زادت صلتى بها ..
ورغم فقرها ورقة حالها فإنها ما كانت تشكو قط ويبدو أن الشراب كان من مقومات حياتها ووجودها لأنه كان على مائدتها بانتظام ..
***
وكان تلاميذها ينقصون ويتزايدون تبعا للظروف والأحوال .. وفى بعض الشهور كنت أبقى عندها ومعى إثنان أو ثلاثة فقط .. وعندما يقترب امتحان المدارس فى يونية كان ينقطع كل الطلاب عن دروسها الموسيقية .. ويبقى اثنان أو ثلاثة من الذين يؤهلون أنفسهم لدراسة الفن والارتزاق منه ..
وفى هذه اللحظات الحرجة كانت تعانى ضيقا ماليا شديدا .. ويبدو ذلك من صوتها .. وحركتها فى البيت .. ولم أكن أنا الطالب الفقير ولا أى واحد ممن تعرفهم يستطيع أن يفعل لها شيئا ..
وكانت فى هذه الساعات المظلمة تكثر من التدخين ومن شرب القهوة .. وتبدو فى الصباح .. محمرة العينين كأنها ما وضعت رأسها على وسادة ..
***
وفى مساء يوم من أيام الثلاثاء .. ذهبت إليها كعادتى لأخذ الدرس فأدخلتنى غرفتها .. وقالت لى أنها أجرت الغرفة الأخرى لأحد أقربائها ليساعدها على الحياة .. وفى هذه اللحظة عرفت فقط أن لها أقرباء فى القاهرة ..
وكان الرجل متوسط العمر ويبدو موفور الصحة .. وكان قليل الكلام .. وقد اكتفى بمصافحتى دون كلمة واحدة وخرج لعمله ..
وسررت لأن المدام حلت مشكلة العجز الذى طرأ على ميزانيتها من انقطاع الدروس فى موسم الامتحانات بطريقة مرضية ..
وعادت لها ابتسامتها .. وأخذت تغنى وتشرب النبيذ وتأكل السجق .. وكان سيد يذهب إلى شارع شريف ويقطع هذا المشوار الطويل ليجىء لها بسجق وارد من فينا ..! يذكرها بوطنها .. وأهلها ..
وكانت تأكل وتمرح .. ولفرط حيويتها فى تلك الساعات الحالمة كنت أتخيل أن السواد قد عاد إلى شعرها .. وكنت إذا أخطأت فى العزف تضع أصابعى بيدها على الكمنجة فى المكان الصحيح ..
وكان حنانها يفيض عن عواطف دافقة .. ويتفجر كالينبوع ..
***
وفى ليلة من ليالى الصيف وكنا فى العطلة الدراسية والناس قد فروا من حر القاهرة إلى المصايف صعدت كعادتى إلى شقة المدام .. فسمعت وأنا صاعد صوتها وهى تصرخ .. ولم أكن قد ألفت منها هذا الصراخ .. فدخلت وجلست فى الردهة وأنا أحدث نفسى بالخروج ولكن المدام عندما رأتنى انفثأ غضبها وقالت لى :
ـ استمهلنى لحظة يا مصطفى .. سنبدأ الدرس حالا ..
فوضعت صندوق الكمنجة على ركبتى وجلست صامتا .. ورأيت فى هذه اللحظة قريبها الساكن عندها يكثر من الخروج والدخول فى غرفته باضطراب ظاهر .. ثم رأيته يجمع ملابسه وكانت هى واقفة على بابه تحادثه بالألمانية ومن لهجتها يبدو أنها تسبه ..
ورأيته بعد لحظات يخرج وفى يده حقيبة وأغلقت وراءه الباب ..
وجلست معتمدة برأسها على راحتها .. وهمست تتمتم :
ـ أى خنزير !!
ثم أدركت أنها مشوشة الشعر وفى ملابس بيتية غير لائقة .. فى حضرة شاب غريب .. فذهبت تصلح من شأنها ..
وعادت وهى تحاول الابتسام .. ولكن عينيها كانتا تبكيان ..
وسألتها :
ـ لماذا ذهب ..؟
ـ تصور هذا الحيوان .. يجىء بالنساء الساقطات .. من الشارع .. ولايحترم أنوثتى .. ولايقدر أن معه سيدة فى البيت ..
ـ ومتى حدث هذا ..؟
ـ أمس .. فى آخر الليل .. وكنت نائمة .. ولكننى صحوت ..
وعادت تبكى ..
ـ لماذا يجرح هؤلاء الأوغاد احساسنا ..؟
ـ على أى حال المسألة انتهت بطرده ..
ودفنت رأسها ..
ـ أعذرنى إن تأخر الدرس .. سأصنع لنفسى فنجانا من القهوة أولا .. أحس برأسى كالطاحونة ..
ـ أعفيك من درس اليوم لأنك متعبة ..
ـ لا .. لا .. وما ذنبك ..؟
وجاءت بالقهوة ..
ـ ألا تشرب فنجانا ..؟
ـ لم أضعها فى فمى قط ..
ـ وكيف تسهر .. وتستذكر دروسك ..؟
ـ أستنشق النشادر ..!
وضحكت متعجبة ..!
ـ والنبيذ .. تشربه ..؟
ـ إن والدى لايسمح لى بشرب " الخروب " ..
ـ ولكنه بعيد .. بعيد ..
ـ إنى أراه الآن .. وكأنه معى فى هذه الغرفة ..!
ـ إنه رجل رهيب إذن ..!
وأمسكت بيدى لأول مرة منذ دخلت بيتها وقبلتها فى رقة محببة .. ظهرا لبطن .. وهى تضغط عليها قليلا قليلا .. وتنظر فى خلال ذلك إلى شىء ثابت على الأرض ..
ثم استدركت فعلتها وقالت لتغطى عواطفها .. وهى تثبت نظرها على كفى :
ـ إذن .. ستعمر طويلا ..
ـ ليس المهم أن نعمر .. وإنما المهم أن نعيش ..
ـ أوه .. من الذى علمك هذه الفلسفة .. وأنت صغير ..؟
ـ إننى أدرس شكسبير .. ودكنز ..!
ـ هذا رائع ..! .. والآن نبدأ الدرس ..
ـ لا زلت أصر على أن أعفيك الليلة من أى اجهاد ..
وتناولت الكمنجة .. ونهضت ..
ومرة أخرى على الباب .. أمسكت بيدى .. ورأيت عواطفها كلها تطل من عينيها وأحسست بشىء يتفجر فى صدرها ..
وأبدت حركة كأنها تود أن تدفن رغباتها لحظة فى أحضان رجل .. ولكنى تجاهلت هذه الحركة .. وهبطت السلم وكنت أسمع وقع أقدامى .. كأنها المطارق تعمل فى رأسى ..
ومر شهر ولم أذهب خلاله إلى الريف رغم العطلة الدراسية .. لأننى كنت لا أود أن أنقطع عن دروس الموسيقى ..
وفى مساء يوم ذهبت كعادتى لأخذ الدرس ففتح لى سيد الباب .. ولما دخلت وجدت العفش فى غير موضعه والبيانو تحرك إلى الباب الخارجى .. فسألته :
ـ ماذا جرى ..؟
ـ سيبيعون العفش ..!
ـ وأين المدام ..؟
ـ فى غرفتها تبكى ..!
وكان صوته يبكى ..
وعلمت منه أن صاحب البيت أوقع حجزا على العفش نظير سبعة جنيهات إيجار شهرين .. والبيع فى صباح الغد ..
وشعرت بالألم .. وكان فى جيبى حوالة بجنيهين وصلتنى من البلد .. فقررت أن أصرفها فى الصباح وأن أقدمها للمدام .. ولما قابلتها وجدتها حزينة .. وباكية .. ولا تدرى كيف تتصرف .. فهونت عليها الأمر وأنا أشد منها اضطرابا وحيرة .. ثم انصرفت ..
***
وفى الصباح ذهبت إلى بيتها مبكرا .. وصعدت السلالم فوجدت المحضر .. ودخلت على أثره الأرجل الغريبة إلى الشقة .. وشعرت بالانقباض والألم .. ولما أعطيت الجنيهين للمدام .. رفضت .. وأصرت على الرفض وهى تقول :
ـ وكيف تأكل وتعيش .. وهم لايقبلون تأجيل الإجراءات .. لأنهم يطلبون المبلغ كله أولا ..
وابتدأ المزاد على البيانو وكان أول شىء فى القاعة .. وشعرت بمن يأخذ بمخنقى وبطنين حاد فى أذنى .. وأصبحت الأصوات التى حولى كهزيم الرعد ..
وفجأة دخل شاب يرتدى جلبابا بسيطا .. ووضع الجنيهات السبعة على المائدة فى سكون ..
وتناول المحضر المبلغ من يد سيد وطوى حقيبته بعد أن أثبت فى الأوراق شيئا وخرج .. وخرج بعده كل الغرباء ..
***
وكان سيد يريد أن يخرج أيضا .. فقد أنجز مهمته .. ولكن المدام نادته والدمع فى عينيها .. وأمسكت بيده .. وفاضت عواطفها وكانت تود أن تقبل وجناته ولكنه انفلت منها وجرى على السلم .. بعد أن أغلق عليها الباب ..
***
ولما استدارت رأتنى فتقدمت نحوى .. ورأيت كل عواطفها الحبيسة عبر السنين وكل حنانها .. وكل رغباتها .. بين ذراعيها المفتوحتين ..
ولما أرادت أن تقبل جبينى .. تلقيت شفتيها بفمى .. وذابت عواطفها فى هذه القبلة ..
***
وفى المساء دعتنى أنا وسيد .. وجلسنا نحن الثلاثة حول المائدة نأكل السجق الوارد من فينا ..!
ثم جلست على البيانو .. فعزفت عليه لأول مرة ألحانا راقصة .. وهى تنظر إلينا معا .. ولم أكن أدرى أينا الذى أدخل على قلبها السرور ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بتاريخ 27/3/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات: