الجمعة، ١٧ أبريل ٢٠١٥



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان

الأحد، ٢١ أكتوبر ٢٠٠٧

الحان راقصة ـ قصة قصيرة

الحان راقصة

قصة محمود البدوى

عشقت الموسيقى وأنا طالب فى المدارس الثانوية إلى درجة الجنون .. وكانت تأخذ منى كل فراغى .. وكل وقتى .. وبعد عامين من دراسة " النوتة " أخذت أتلقى دروسا خاصة فى الكمان على يد سيدة نمساوية .. كانت تسكن فى شقة صغيرة علوية .. بشارع حسن الأكبر .. وكانت أرملة فى الخامسة والأربعين .. فقيرة وفنانة من طراز لايشق له غبار ..
وكانت تعطى دروسا فى البيانو والكمان للسيدات والطلبة الذين يعشقون الموسيقى نظير أجر بسيط لايتجاوز جنيها فى الشهر .. ومع هذا فقل من يسير معها إلى نهاية الشوط .. فنصف العشاق كان يتخلف فى أول الطريق بعد أن يدركه التعب واليأس .. ونصفهم الباقى كان يتكاسل ويترنح .. ويجىء يوما ويغيب عشرة ..
ولكن هذا لم يكن يغير شيئا من طريقة حياتها ..
وكنت ألاحظ أنها تعيش ككل أنثى فى مثل سنها وادعة مستكينة ولكنها كانت تكثر من شرب النبيذ .. وكنت أرى الزجاجات الفارغة فى المطبخ تصل إلى السقف ..
وكانت تراعى مصلحة تلاميذها .. وتعلم .. وفقا لبرنامج مرسوم .. وكان معظم طلابها من هواة الكمان وندر من كان يتعلم البيانو ..
وكان من عادتها أن تستقبلنى بفنجان من القهوة .. تجىء به من المطبخ وتجلس أمامى وتشرب ..
وكانت رقيقة جياشة العواطف تفيض مشاعرها .. على الجميع .. ولم أكن أعرف أتزوجت من قبل .. ورزقت بأطفال أم عاشت طول حياتها عانسا كما أراها الآن ..
وكان معظم تلاميذ السيدة هيلين من دون العشرين .. وكانت الدراسة تستمر فى بيتها إلى الساعة التاسعة ليلا ..
وكان يقوم على خدمتها شاب يدعى سيد وكان سريع الحركة يعفيها من طلوع السلالم العالية ويقضى لها كل ما تحتاجه من السوق .. وكان يأتى فى المساء فقط لأنه يعمل إلى الغروب فى محل تجارى فى شارع جامع البنات ..
وكان مرحا لاتفارق الابتسامة وجهه .. ولايشكو من أى شىء .. على الاطلاق ..
وكانت السيدة هيلين تقول لى أنه لاعيب فيه سوى أنه يشرب النبيذ .. ويحسبه " تمر هندى " .. وكنت أضحك لهذا .. ويضحك سيد ..
وكانت الحياة بالنسبة لها بسيطة ولكنها كانت تعتمد على شىء غير ثابت يتغير تبعا لمقتضيات الأحوال .. ولهذا كنت أراها أحيانا واجمة .. ووجهها أخرس ..
كانت ترى الشيخوخة والعجز وقلة الحيلة .. تقترب منها وشيكا .. ولا تستطيع هى عمل أى شىء على الاطلاق .. فتضع يديها على عينيها كأنها تتقى بهما الصاعقة ..
وكان درسى يبدأ من الساعة الثامنة ثلاث مرات فى الأسبوع .. وكانت تعطينى أكثر من الوقت الذى أستحقه .. لأنها وجدتنى أتقدم .. وكانت تعلق علىَّ الآمال ..
وكانت فنانة أصيلة .. ولقد امتزجت حياتها بجو القاهرة وأحبتها وأحبت أهلها .. وأحبت التلاميذ الذين تعطيهم الدروس كأنهم قطعة من قلبها ..
وكانت صديقة .. تسألنا عن أحوالنا ومدارسنا ومعيشتنا وكان يكربها أننى أعيش فى القاهرة .. وحدى .. وأسرتى بعيدة فى الريف .. وكانت تسألنى كيف آكل .. ومن الذى ينظف لى ملابسى وبيتى .. والواقع أن هذه كانت مشكلة ضخمة ولكننا لم نكن نفكر فيها .. لأننا كنا نعيش كما اتفق ..
وكان الذين لايحبون الفنون مثلنا .. يحسون بالفراغ والانقباض .. فينطلقون إلى المواخير ..
وكان درسى فى الواقع هو آخر الدروس .. ولقد اخترته فى الساعة الثامنة لأنى كنت أسكن قريبا منها .. وأحب أن أذهب إليها بعد الفراغ من دروسى المدرسية ..
وكانت تستعمل طريقة محببة إلى كل نفس .. ولكننى كنت أعانى من تلف الأعصاب أحيانا وأكتفى بأن أسمع منها مقطوعة كلاسيكية .. أو افتتاحية قصيرة .. وأنا جالس شارد مضيع ..
وكانت السيدة هيلين بيضاء الوجه وطويلة .. وتركت الشيب يزحف إلى شعرها ولم تغطه بالأصباغ ..
وكانت بعد الدرس تجلس أمامى تتعشى وتتحدث وتفيض فى كل الشئون وكانت هذه الجلسات قد زادت صلتى بها ..
ورغم فقرها ورقة حالها فإنها ما كانت تشكو قط ويبدو أن الشراب كان من مقومات حياتها ووجودها لأنه كان على مائدتها بانتظام ..
***
وكان تلاميذها ينقصون ويتزايدون تبعا للظروف والأحوال .. وفى بعض الشهور كنت أبقى عندها ومعى إثنان أو ثلاثة فقط .. وعندما يقترب امتحان المدارس فى يونية كان ينقطع كل الطلاب عن دروسها الموسيقية .. ويبقى اثنان أو ثلاثة من الذين يؤهلون أنفسهم لدراسة الفن والارتزاق منه ..
وفى هذه اللحظات الحرجة كانت تعانى ضيقا ماليا شديدا .. ويبدو ذلك من صوتها .. وحركتها فى البيت .. ولم أكن أنا الطالب الفقير ولا أى واحد ممن تعرفهم يستطيع أن يفعل لها شيئا ..
وكانت فى هذه الساعات المظلمة تكثر من التدخين ومن شرب القهوة .. وتبدو فى الصباح .. محمرة العينين كأنها ما وضعت رأسها على وسادة ..
***
وفى مساء يوم من أيام الثلاثاء .. ذهبت إليها كعادتى لأخذ الدرس فأدخلتنى غرفتها .. وقالت لى أنها أجرت الغرفة الأخرى لأحد أقربائها ليساعدها على الحياة .. وفى هذه اللحظة عرفت فقط أن لها أقرباء فى القاهرة ..
وكان الرجل متوسط العمر ويبدو موفور الصحة .. وكان قليل الكلام .. وقد اكتفى بمصافحتى دون كلمة واحدة وخرج لعمله ..
وسررت لأن المدام حلت مشكلة العجز الذى طرأ على ميزانيتها من انقطاع الدروس فى موسم الامتحانات بطريقة مرضية ..
وعادت لها ابتسامتها .. وأخذت تغنى وتشرب النبيذ وتأكل السجق .. وكان سيد يذهب إلى شارع شريف ويقطع هذا المشوار الطويل ليجىء لها بسجق وارد من فينا ..! يذكرها بوطنها .. وأهلها ..
وكانت تأكل وتمرح .. ولفرط حيويتها فى تلك الساعات الحالمة كنت أتخيل أن السواد قد عاد إلى شعرها .. وكنت إذا أخطأت فى العزف تضع أصابعى بيدها على الكمنجة فى المكان الصحيح ..
وكان حنانها يفيض عن عواطف دافقة .. ويتفجر كالينبوع ..
***
وفى ليلة من ليالى الصيف وكنا فى العطلة الدراسية والناس قد فروا من حر القاهرة إلى المصايف صعدت كعادتى إلى شقة المدام .. فسمعت وأنا صاعد صوتها وهى تصرخ .. ولم أكن قد ألفت منها هذا الصراخ .. فدخلت وجلست فى الردهة وأنا أحدث نفسى بالخروج ولكن المدام عندما رأتنى انفثأ غضبها وقالت لى :
ـ استمهلنى لحظة يا مصطفى .. سنبدأ الدرس حالا ..
فوضعت صندوق الكمنجة على ركبتى وجلست صامتا .. ورأيت فى هذه اللحظة قريبها الساكن عندها يكثر من الخروج والدخول فى غرفته باضطراب ظاهر .. ثم رأيته يجمع ملابسه وكانت هى واقفة على بابه تحادثه بالألمانية ومن لهجتها يبدو أنها تسبه ..
ورأيته بعد لحظات يخرج وفى يده حقيبة وأغلقت وراءه الباب ..
وجلست معتمدة برأسها على راحتها .. وهمست تتمتم :
ـ أى خنزير !!
ثم أدركت أنها مشوشة الشعر وفى ملابس بيتية غير لائقة .. فى حضرة شاب غريب .. فذهبت تصلح من شأنها ..
وعادت وهى تحاول الابتسام .. ولكن عينيها كانتا تبكيان ..
وسألتها :
ـ لماذا ذهب ..؟
ـ تصور هذا الحيوان .. يجىء بالنساء الساقطات .. من الشارع .. ولايحترم أنوثتى .. ولايقدر أن معه سيدة فى البيت ..
ـ ومتى حدث هذا ..؟
ـ أمس .. فى آخر الليل .. وكنت نائمة .. ولكننى صحوت ..
وعادت تبكى ..
ـ لماذا يجرح هؤلاء الأوغاد احساسنا ..؟
ـ على أى حال المسألة انتهت بطرده ..
ودفنت رأسها ..
ـ أعذرنى إن تأخر الدرس .. سأصنع لنفسى فنجانا من القهوة أولا .. أحس برأسى كالطاحونة ..
ـ أعفيك من درس اليوم لأنك متعبة ..
ـ لا .. لا .. وما ذنبك ..؟
وجاءت بالقهوة ..
ـ ألا تشرب فنجانا ..؟
ـ لم أضعها فى فمى قط ..
ـ وكيف تسهر .. وتستذكر دروسك ..؟
ـ أستنشق النشادر ..!
وضحكت متعجبة ..!
ـ والنبيذ .. تشربه ..؟
ـ إن والدى لايسمح لى بشرب " الخروب " ..
ـ ولكنه بعيد .. بعيد ..
ـ إنى أراه الآن .. وكأنه معى فى هذه الغرفة ..!
ـ إنه رجل رهيب إذن ..!
وأمسكت بيدى لأول مرة منذ دخلت بيتها وقبلتها فى رقة محببة .. ظهرا لبطن .. وهى تضغط عليها قليلا قليلا .. وتنظر فى خلال ذلك إلى شىء ثابت على الأرض ..
ثم استدركت فعلتها وقالت لتغطى عواطفها .. وهى تثبت نظرها على كفى :
ـ إذن .. ستعمر طويلا ..
ـ ليس المهم أن نعمر .. وإنما المهم أن نعيش ..
ـ أوه .. من الذى علمك هذه الفلسفة .. وأنت صغير ..؟
ـ إننى أدرس شكسبير .. ودكنز ..!
ـ هذا رائع ..! .. والآن نبدأ الدرس ..
ـ لا زلت أصر على أن أعفيك الليلة من أى اجهاد ..
وتناولت الكمنجة .. ونهضت ..
ومرة أخرى على الباب .. أمسكت بيدى .. ورأيت عواطفها كلها تطل من عينيها وأحسست بشىء يتفجر فى صدرها ..
وأبدت حركة كأنها تود أن تدفن رغباتها لحظة فى أحضان رجل .. ولكنى تجاهلت هذه الحركة .. وهبطت السلم وكنت أسمع وقع أقدامى .. كأنها المطارق تعمل فى رأسى ..
ومر شهر ولم أذهب خلاله إلى الريف رغم العطلة الدراسية .. لأننى كنت لا أود أن أنقطع عن دروس الموسيقى ..
وفى مساء يوم ذهبت كعادتى لأخذ الدرس ففتح لى سيد الباب .. ولما دخلت وجدت العفش فى غير موضعه والبيانو تحرك إلى الباب الخارجى .. فسألته :
ـ ماذا جرى ..؟
ـ سيبيعون العفش ..!
ـ وأين المدام ..؟
ـ فى غرفتها تبكى ..!
وكان صوته يبكى ..
وعلمت منه أن صاحب البيت أوقع حجزا على العفش نظير سبعة جنيهات إيجار شهرين .. والبيع فى صباح الغد ..
وشعرت بالألم .. وكان فى جيبى حوالة بجنيهين وصلتنى من البلد .. فقررت أن أصرفها فى الصباح وأن أقدمها للمدام .. ولما قابلتها وجدتها حزينة .. وباكية .. ولا تدرى كيف تتصرف .. فهونت عليها الأمر وأنا أشد منها اضطرابا وحيرة .. ثم انصرفت ..
***
وفى الصباح ذهبت إلى بيتها مبكرا .. وصعدت السلالم فوجدت المحضر .. ودخلت على أثره الأرجل الغريبة إلى الشقة .. وشعرت بالانقباض والألم .. ولما أعطيت الجنيهين للمدام .. رفضت .. وأصرت على الرفض وهى تقول :
ـ وكيف تأكل وتعيش .. وهم لايقبلون تأجيل الإجراءات .. لأنهم يطلبون المبلغ كله أولا ..
وابتدأ المزاد على البيانو وكان أول شىء فى القاعة .. وشعرت بمن يأخذ بمخنقى وبطنين حاد فى أذنى .. وأصبحت الأصوات التى حولى كهزيم الرعد ..
وفجأة دخل شاب يرتدى جلبابا بسيطا .. ووضع الجنيهات السبعة على المائدة فى سكون ..
وتناول المحضر المبلغ من يد سيد وطوى حقيبته بعد أن أثبت فى الأوراق شيئا وخرج .. وخرج بعده كل الغرباء ..
***
وكان سيد يريد أن يخرج أيضا .. فقد أنجز مهمته .. ولكن المدام نادته والدمع فى عينيها .. وأمسكت بيده .. وفاضت عواطفها وكانت تود أن تقبل وجناته ولكنه انفلت منها وجرى على السلم .. بعد أن أغلق عليها الباب ..
***
ولما استدارت رأتنى فتقدمت نحوى .. ورأيت كل عواطفها الحبيسة عبر السنين وكل حنانها .. وكل رغباتها .. بين ذراعيها المفتوحتين ..
ولما أرادت أن تقبل جبينى .. تلقيت شفتيها بفمى .. وذابت عواطفها فى هذه القبلة ..
***
وفى المساء دعتنى أنا وسيد .. وجلسنا نحن الثلاثة حول المائدة نأكل السجق الوارد من فينا ..!
ثم جلست على البيانو .. فعزفت عليه لأول مرة ألحانا راقصة .. وهى تنظر إلينا معا .. ولم أكن أدرى أينا الذى أدخل على قلبها السرور ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بتاريخ 27/3/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دروس خصوصية ـ قصة قصيرة



دروس خصوصية
قصة محمود البدوى


قضيت مرحلة دراستى الثانوية فى المدرسة السعيدية بالجيزة . ومع تاريخ هذه المدينة الحافل الذى تمتد جذوره إلى عهد الفراعنة .. فإنها مدينة كئيبة فقيرة لاتسر المقيم فيها ولا العابر بها .. ولا أذكر أننى مررت بها عرضا ورأيت فيها ما يبهج النفس .. حتى وجوه الناس تجد فيها هذه الكآبة المظلمة ..
ومع هذا فأنا أعود وأذكر هذه المدينة بعد عشرين عاما .. كنت فى دراستى للبكالوريا .. وأود أن أنهى هذه المرحلة من التعليم .. فلم أكن أشعر بأى حب للمدرسة .. وكنت أخرج مع زملائى من الفصول فى آخر النهار .. ونسير فى شارع المدارس .. ونجد فى مواجهتنا عند محطة الترام العمومية .. التى نأخذ منها الترام إلى بيوتنا .. لافتة صغيرة معلقة على إحدى الشرفات التى تطل على الميدان :
" دروس خصوصية فى اللغة الفرنسية " ..
وكنت أرى هذه اللافتة كل يوم وأنا أهم بركوب الترام .. وظلت معلقة أمام بصرى وتترك أثرها فى نفسى عدة شهور .. حتى وجدت نفسى فى أصيل يوم أتجه إليها .. وصعدت إلى الدور الثانى فى ذلك المنزل الصغير الذى كان يطل على الميدان .. وضغطت الجرس .. وفتحت لى الباب سيدة أجنبية .. وكلمتها بخليط من الإنجليزية والفرنسية عن بغيتى .. فقادتنى وهى تبتسم ودون أن تسمع كلامى إلى الداخل ..
وأجلستنى فى حجرة صغيرة .. وقالت بالفرنسية :
ـ انتظر لحظة ..
وأدركت لأول وهلة أنها حجرة الدروس الخصوصية .. فقد كان هناك مكتب صغير وضع بجانب الحائط فيما يلى الباب مباشرة .. وحوله كرسيان من الخيرزان وأريكة قديمة .. وكان على المكتب بعض الكتب فى اللغة الفرنسية .. وكثير من كتب الاجرومية .. ثم بعض الروايات الإنجليزية المقررة على البكالوريا .. ومحابر ومساطر .. وأقلام من الرصاص .. ومساحة وبرجل .. ثم أبرز شىء على المكتب .. وهو منبه كبير خيل إلىَّ أنه كان فى يوم من الأيام ساعة حائط .. وكان يشير إلى الساعة الرابعة والربع .. بعد الظهر .. وكان كل شىء فى الحجرة قد وضع فى غير نظام أو ترتيب كأنه فى مخزن فى الأوبرا .. وعجبت لما رأيته .. وفى غمرة خواطرى دخل علىَّ الأستاذ .. وكان يمسح عينيه ولا شك أنه كان نائما .. وكان بدينا ووجهه منتفخا ومدورا كالرغيف .. وكان فى الخمسين من عمره .. ويرتدى بنطلونا رماديا وقميصا أبيض مفتوح العروة .. وحيانى وجلس إلى المكتب ..
وقلت له :
ـ أريد دروسا فى الفرنسية ..
فقال :
ـ وى ..
وفتح دفتر مذكراته وهو يفرك عينيه ، ودون إسمى واسم مدرستى ..
ونظر إلى المنبه وهو يقول :
ـ أتحب أن تبدأ الدرس الأول الآن .. والساعة كزملائك .. بثلاثين قرشا ..
فلم أر أى وجه للرفض فقد كان السعر رخيصا .. وجلست إلى المكتب .. وابتدأ الدرس ..
وفى خلال ذلك دخلت علينا السيدة التى فتحت لى الباب .. وقدمت لى فنجانا من القهوة السمراء .. كما يسميها الفرنسيون .. وكانت ترتدى ثوبا قصيرا .. وتمشى دون أن تسمع لخفها صوتا .. ولمحتها بعين المراهق سريعا وهى تضع القهوة على المكتب ثم نكست رأسى فى الكتاب ..
وأعطانى الأستاذ بعض الاجرومية .. والمطالعة .. وفى فترة انشغالى بهذا نظرت إلى المنبه فوجدتها الساعة الخامسة والثلث .. فنظر إلىَّ الأستاذ مبتسما .. وقال :
ـ لقد انتهى الدرس الآن .. وإلى يوم الإثنين ..
فنهضت وقد عجبت لمضى الوقت بمثل هذه السرعة .. وأعطيته جنيها .. وانصرفت ومعى كراساتى ..
***
وجئت فى الميعاد لآخذ الدرس الثانى .. والثالث .. وهكذا مرت الأيام .. وكنت أجد هذه السيدة الأجنبية فى البيت دائما .. وكانت هى التى تفتح لى الباب وتقودنى إلى حيث يوجد الأستاذ .. وكنت أنظر إلى ساقيها العاريتين وإلى جسمها وهو ينساب أمامى .. وأمشى وراءها فى صمت .. وكنت أجد بعض الأحيان تلميذين أو ثلاثة ينتظرون فى الردهة .. حتى يجىء دورهم .. فقد كانت اللافتة التى فى الشرفة ملفتة للنظر .. كما أن اللافتة التى فى الداخل .. وهى تلك السيدة الحسناء.. أكثر الفاتا .. لقد كنا جميعا تلاميذ مراهقين .. قادمين من الريف لنتعلم فى مدينة القاهرة .. هذه المدينة الكبيرة ولم نكن نعرف فيها أنثى واحدة أو نجرؤ على محادثة أية امرأة فى الطريق ..
وكنت قد أدركت بعد الدرس الرابع أو الخامس .. أن الأستاذ ليس فرنسيا .. بل هو فى الغالب .. مالطى إذ كان يدرس الإنجليزية أيضا .. بجانب الفرنسية .. وكان نطقه فيه لكنة .. وأجروميته ضعيفة .. ولم يكن قد درس فى الجامعة أو حتى فى أية مدرسة ثانوية .. ومع ذلك فقد واصلنا أنا وغيرى من الطلبة الدرس .. وكنا كلما فكرنا فى الانقطاع نجد أنفسنا مسوقين إلى هذا البيت بقوة خفية .. وكانت السيدة التى تفتح لنا الباب وعلى ثغرها ابتسامة هى السبب .. كانت هى الطعم الذى وضعه الأستاذ فى المصيدة .. لاصطيادنا .. ولم نكن نعرف أهى زوجته أو معشوقته .. ولكننا لم نكن نجد فى هذا المنزل أحدا سواهما .. وكان لاشك قد درس وعرف ما نعانيه من قوة الحرمان الجنسى فأغرانا بهذه الأنثى .. وجعلنا نراها فى مباذلها كلما دخلنا المنزل ..
وكان هو يجلس إلى مكتبه كالصنم يدخن ولا يتحرك .. وهى التى تروح وتجىء أمامنا وتأخذ منه النقود .. وتجىء لنا بكتب الاجرومية .. وتدخل كل واحد منا إلى حصته ..
وكان الدرس عبارة عن ستين دقيقة كاملة .. ولكنا كنا نلاحظ دائما أن هذه الساعة الميقاتية تمضى سريعا ..
ثم اكتشفنا أخيرا أن هذا الأستاذ المالطى يغشنا .. يغافلنا ونحن نضع وجهنا فى الكتاب ويقدم المنبه .. ثلث أو ربع ساعة .. فى كل حصة .. فيسرق منا عشرين دقيقة فى كل ساعة ..
وكان أول مكتشف له وهو يفعل ذلك زميلا لنا فى المدرسة يدعى عبد الحى .. وكان أضعف طالب فى اللغة الفرنسية وأكثر مشاغب فى الفصل .. وكان يكره المدرسين الأجانب ويعاكسهم ويسبهم بالعربية .. فلما عرفوا بعض معانى هذه الكلمات من كثرة تكرارها منه .. أخذ يسبهم بلهجته الصعيدية التى لا يعرفها أحد ..
وكان عبد الحى هذا من أعز أصدقائى .. فقد كنا من أقليم واحد .. وكان من أكثر المواظبين على الدروس الخصوصية .. وكان درسه دائما من السادسة إلى السابعة .. ولم يكن يعتنى بهندامه مثلنا أو يتأنق فى ملبسه وهو ذاهب إلى الدرس .. كى يلفت إليه نظر السيدة الحسناء ، بل كان خشنا فى ملبسه وفى حديثه معها .. حتى تصورنا أنه لايفكر فى المرأة اطلاقا ..
وكنا نحن نصفف شعرنا ونلبس أحسن ملابسنا ونحن ذاهبون إلى هناك .. ونبتسم فى وجه هذه الفرنسية .. ونحادثها بالكلمات الفرنسية القليلة التى حفظناها عن ظهر قلب .. ونغازلها .. ولكنها كانت تتلقى محاولاتنا بابتسامة عذبة وحركات لاتقطع الأمل ..
وكنا نزداد كل يوم غراما بها وولها .. حتى أصبحت شغلنا الشاغل فى هذه المرحلة من حياتنا ..
وكان عبد الحى بعد أن ضبط المدرس وهو يقدم المنبه .. قد أشاع هذه الفضيحة فى المدرسة .. حتى أصبح كل تلميذ يذهب إلى هذه الدروس الخصوصية متنبها .. ينظر إلى المنبه طوال الدرس ..
وكان الأستاذ المالطى يثور ويصيح فى وجوهنا :
ـ لقد صدقتم عبد الحى .. أنا أقدم المنبه .. كيف ..؟ أنه كذاب .. وحمار أيضا .. ولن يتعلم شيئا .. حتى لو درس مائة سنة ..
وكان هذا حقا ، فإن عبد الحى قد ترك المدرسة بعد أن يئس من الكتب .. وانصرف للحياة .. وهو الآن يملك نصف عمارات الضاحية التى أقيم فيها ..
وكان هذا حقا ، فإن عبد الحى قد ترك المدرسة بعد أن يئس من الكتب .. وانصرف للحياة .. وهو الآن يملك نصف عمارات الضاحية التى أقيم فيها ..
وكانت محاولاتنا مع " لوسين " زوجة الأستاذ أو " معشوقته " .. تذهب كلها عبثا .. فقد كنا صبيانا تنقصنا التجارب وفهم المرأة وألاعيبها .. وكانت هى تتزين لنا وتتمخطر فى مشيتها وتكشف عن مفاتنها لتلهب فينا النار .. ولتجعل الجذوة دائما مشتعلة ..
وكان البيت مع توالى الدروس فيه يوميا .. من الرابعة إلى الثامنة مساء .. يبدو ساكنا وكانت معظم نوافذه المطلة على الشارع مغلقة .. فى النهار والليل ..
وكنا نجلس فى الصالة المضاءة دائما بمصباح كهربائى صغير .. حتى رابعة النهار .. فإذا جاء ميعاد الدرس .. دخل كل واحد منا فى دوره إلى حجرة الأستاذ ..
وكنا نرى " لوسين " وهى رائحة وغادية فى البيت .. ترتدى الروب المفتوح وفى فمها السيجارة .. وقد حلت شعرها وتركته ينسدل على كتفيها .. وكانت تحدثنا مبتسمة وعيناها تلمعان .. وتسألنا عن مدى تقدمنا فى الدرس .. وتقلب فى الكتب التى بين أيدينا .. ثم تنساب فى خفة إلى المطبخ لتصنع القهوة ..
وكانت فى أيام الحر اللافحة .. تلف رأسها بفوطة مبلولة .. وتلبس قميصا قصيرا إلى ما فوق الركبة .. وتقول لنا وعيناها ناعستان .. وهى تلعق الثلج :
ـ أننا فى جهنم .. أى حرارة ..
وكنا نود أن تظل هذه الجهنم أبدية .. لنراها فى هذا القميص القصير أبدا ..
وكان زوجها ذلك المالطى .. وقد نسيت أسمه .. كالدرفيل .. ضخما .. بليدا .. كثير النعاس .. غبيا .. ولا أدرى كيف وقع عليها وربما يكون قد اصطادها من البحر على ظهر مركب ..
وكان الأستاذ فى يوم السبت يفرغ من الدروس فى الساعة السابعة لأنه يتعشى مع لوسين فى الخارج ..
وكنا نراها فى ذلك اليوم لابسة أجمل ملابسها .. وقد تزينت كأنها إحدى غادات السينما .. وكانت تكثر من مداعبتنا فى ذلك الوقت والضحك معنا .. حتى يبلغ سرورنا أشده ..
***
وذات مساء انتهيت من الدرس كعادتى .. واتخذت طريقى إلى الخارج .. وكان البيت ساكنا ولم يكن فى الصالة أحد من التلاميذ .. فأدركت أنها آخر حصة .. وفى أثناء اجتيازى الممر إلى الخارج .. سمعت همسا من ناحية المطبخ .. فتلفت ورأيت شبحين هناك .. فاقتربت منهما وعرفت رأس عبد الحى .. وكان يطوق لوسين ويشدها إليه بذراعيه القويتين وهى تذوب بين أحضانه ..
وكانت لوسين هذه فى تمنعها علينا .. بعد أن اشعلت فينا النيران هى التى دفعتنا بعد ذلك بشهر إلى أن نذهب إلى " أثينا " فى حى البغاء .. وكانت أثينا هذه امرأة يونانية ولا أدرى لم اخترناها بالذات ألأن جسمها الأغريقى كان كثير الشبه بجسم لوسين .. أم لأنها كانت تعاملنا برقة .. وتفهم أننا لازلنا صغارا ..
***
وكنا نجلس فى ردهة منزلها فى انتظار دورنا كأننا فى الدرس .. وكان عبد الحى معنا .. وكان يكثر من الشغب والعراك معها .. وكانت تضربه على صدره بيدها وتسبه باليونانية والعربية .. وتظهر أمامنا كأنها تبغضه من كل قلبها ..
وكانت تنعته بالبغل وتبقيه دائما فى الآخر ..
وقد نسيت جسم أثينا الأغريقى وأنا أكتب هذه الصفحات .. ولكن صوتها وهى تتعارك مع عبد الحى لا يزال صداه فى أذنى .. فقد كان خشنا .. أقرب إلى صوت الرجال ..
ولم نعجب حينما عرفنا بعد ذلك بسنوات أن أثينا التى كانت تأخذ من كل واحد منا ريالا .. كانت لا تأخذ شيئا من عبد الحى على الاطلاق لأنه كان رجلها ..
وقد عرفت من هذا الدرس المرأة والحياة ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى 1/8/1954 بمجلة الرسالة الجديدة وأعيد نشرها فى كتاب " العذراء والليل " سنة
1956
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ