الأحد، ٢١ أكتوبر ٢٠٠٧

دروس خصوصية ـ قصة قصيرة



دروس خصوصية
قصة محمود البدوى


قضيت مرحلة دراستى الثانوية فى المدرسة السعيدية بالجيزة . ومع تاريخ هذه المدينة الحافل الذى تمتد جذوره إلى عهد الفراعنة .. فإنها مدينة كئيبة فقيرة لاتسر المقيم فيها ولا العابر بها .. ولا أذكر أننى مررت بها عرضا ورأيت فيها ما يبهج النفس .. حتى وجوه الناس تجد فيها هذه الكآبة المظلمة ..
ومع هذا فأنا أعود وأذكر هذه المدينة بعد عشرين عاما .. كنت فى دراستى للبكالوريا .. وأود أن أنهى هذه المرحلة من التعليم .. فلم أكن أشعر بأى حب للمدرسة .. وكنت أخرج مع زملائى من الفصول فى آخر النهار .. ونسير فى شارع المدارس .. ونجد فى مواجهتنا عند محطة الترام العمومية .. التى نأخذ منها الترام إلى بيوتنا .. لافتة صغيرة معلقة على إحدى الشرفات التى تطل على الميدان :
" دروس خصوصية فى اللغة الفرنسية " ..
وكنت أرى هذه اللافتة كل يوم وأنا أهم بركوب الترام .. وظلت معلقة أمام بصرى وتترك أثرها فى نفسى عدة شهور .. حتى وجدت نفسى فى أصيل يوم أتجه إليها .. وصعدت إلى الدور الثانى فى ذلك المنزل الصغير الذى كان يطل على الميدان .. وضغطت الجرس .. وفتحت لى الباب سيدة أجنبية .. وكلمتها بخليط من الإنجليزية والفرنسية عن بغيتى .. فقادتنى وهى تبتسم ودون أن تسمع كلامى إلى الداخل ..
وأجلستنى فى حجرة صغيرة .. وقالت بالفرنسية :
ـ انتظر لحظة ..
وأدركت لأول وهلة أنها حجرة الدروس الخصوصية .. فقد كان هناك مكتب صغير وضع بجانب الحائط فيما يلى الباب مباشرة .. وحوله كرسيان من الخيرزان وأريكة قديمة .. وكان على المكتب بعض الكتب فى اللغة الفرنسية .. وكثير من كتب الاجرومية .. ثم بعض الروايات الإنجليزية المقررة على البكالوريا .. ومحابر ومساطر .. وأقلام من الرصاص .. ومساحة وبرجل .. ثم أبرز شىء على المكتب .. وهو منبه كبير خيل إلىَّ أنه كان فى يوم من الأيام ساعة حائط .. وكان يشير إلى الساعة الرابعة والربع .. بعد الظهر .. وكان كل شىء فى الحجرة قد وضع فى غير نظام أو ترتيب كأنه فى مخزن فى الأوبرا .. وعجبت لما رأيته .. وفى غمرة خواطرى دخل علىَّ الأستاذ .. وكان يمسح عينيه ولا شك أنه كان نائما .. وكان بدينا ووجهه منتفخا ومدورا كالرغيف .. وكان فى الخمسين من عمره .. ويرتدى بنطلونا رماديا وقميصا أبيض مفتوح العروة .. وحيانى وجلس إلى المكتب ..
وقلت له :
ـ أريد دروسا فى الفرنسية ..
فقال :
ـ وى ..
وفتح دفتر مذكراته وهو يفرك عينيه ، ودون إسمى واسم مدرستى ..
ونظر إلى المنبه وهو يقول :
ـ أتحب أن تبدأ الدرس الأول الآن .. والساعة كزملائك .. بثلاثين قرشا ..
فلم أر أى وجه للرفض فقد كان السعر رخيصا .. وجلست إلى المكتب .. وابتدأ الدرس ..
وفى خلال ذلك دخلت علينا السيدة التى فتحت لى الباب .. وقدمت لى فنجانا من القهوة السمراء .. كما يسميها الفرنسيون .. وكانت ترتدى ثوبا قصيرا .. وتمشى دون أن تسمع لخفها صوتا .. ولمحتها بعين المراهق سريعا وهى تضع القهوة على المكتب ثم نكست رأسى فى الكتاب ..
وأعطانى الأستاذ بعض الاجرومية .. والمطالعة .. وفى فترة انشغالى بهذا نظرت إلى المنبه فوجدتها الساعة الخامسة والثلث .. فنظر إلىَّ الأستاذ مبتسما .. وقال :
ـ لقد انتهى الدرس الآن .. وإلى يوم الإثنين ..
فنهضت وقد عجبت لمضى الوقت بمثل هذه السرعة .. وأعطيته جنيها .. وانصرفت ومعى كراساتى ..
***
وجئت فى الميعاد لآخذ الدرس الثانى .. والثالث .. وهكذا مرت الأيام .. وكنت أجد هذه السيدة الأجنبية فى البيت دائما .. وكانت هى التى تفتح لى الباب وتقودنى إلى حيث يوجد الأستاذ .. وكنت أنظر إلى ساقيها العاريتين وإلى جسمها وهو ينساب أمامى .. وأمشى وراءها فى صمت .. وكنت أجد بعض الأحيان تلميذين أو ثلاثة ينتظرون فى الردهة .. حتى يجىء دورهم .. فقد كانت اللافتة التى فى الشرفة ملفتة للنظر .. كما أن اللافتة التى فى الداخل .. وهى تلك السيدة الحسناء.. أكثر الفاتا .. لقد كنا جميعا تلاميذ مراهقين .. قادمين من الريف لنتعلم فى مدينة القاهرة .. هذه المدينة الكبيرة ولم نكن نعرف فيها أنثى واحدة أو نجرؤ على محادثة أية امرأة فى الطريق ..
وكنت قد أدركت بعد الدرس الرابع أو الخامس .. أن الأستاذ ليس فرنسيا .. بل هو فى الغالب .. مالطى إذ كان يدرس الإنجليزية أيضا .. بجانب الفرنسية .. وكان نطقه فيه لكنة .. وأجروميته ضعيفة .. ولم يكن قد درس فى الجامعة أو حتى فى أية مدرسة ثانوية .. ومع ذلك فقد واصلنا أنا وغيرى من الطلبة الدرس .. وكنا كلما فكرنا فى الانقطاع نجد أنفسنا مسوقين إلى هذا البيت بقوة خفية .. وكانت السيدة التى تفتح لنا الباب وعلى ثغرها ابتسامة هى السبب .. كانت هى الطعم الذى وضعه الأستاذ فى المصيدة .. لاصطيادنا .. ولم نكن نعرف أهى زوجته أو معشوقته .. ولكننا لم نكن نجد فى هذا المنزل أحدا سواهما .. وكان لاشك قد درس وعرف ما نعانيه من قوة الحرمان الجنسى فأغرانا بهذه الأنثى .. وجعلنا نراها فى مباذلها كلما دخلنا المنزل ..
وكان هو يجلس إلى مكتبه كالصنم يدخن ولا يتحرك .. وهى التى تروح وتجىء أمامنا وتأخذ منه النقود .. وتجىء لنا بكتب الاجرومية .. وتدخل كل واحد منا إلى حصته ..
وكان الدرس عبارة عن ستين دقيقة كاملة .. ولكنا كنا نلاحظ دائما أن هذه الساعة الميقاتية تمضى سريعا ..
ثم اكتشفنا أخيرا أن هذا الأستاذ المالطى يغشنا .. يغافلنا ونحن نضع وجهنا فى الكتاب ويقدم المنبه .. ثلث أو ربع ساعة .. فى كل حصة .. فيسرق منا عشرين دقيقة فى كل ساعة ..
وكان أول مكتشف له وهو يفعل ذلك زميلا لنا فى المدرسة يدعى عبد الحى .. وكان أضعف طالب فى اللغة الفرنسية وأكثر مشاغب فى الفصل .. وكان يكره المدرسين الأجانب ويعاكسهم ويسبهم بالعربية .. فلما عرفوا بعض معانى هذه الكلمات من كثرة تكرارها منه .. أخذ يسبهم بلهجته الصعيدية التى لا يعرفها أحد ..
وكان عبد الحى هذا من أعز أصدقائى .. فقد كنا من أقليم واحد .. وكان من أكثر المواظبين على الدروس الخصوصية .. وكان درسه دائما من السادسة إلى السابعة .. ولم يكن يعتنى بهندامه مثلنا أو يتأنق فى ملبسه وهو ذاهب إلى الدرس .. كى يلفت إليه نظر السيدة الحسناء ، بل كان خشنا فى ملبسه وفى حديثه معها .. حتى تصورنا أنه لايفكر فى المرأة اطلاقا ..
وكنا نحن نصفف شعرنا ونلبس أحسن ملابسنا ونحن ذاهبون إلى هناك .. ونبتسم فى وجه هذه الفرنسية .. ونحادثها بالكلمات الفرنسية القليلة التى حفظناها عن ظهر قلب .. ونغازلها .. ولكنها كانت تتلقى محاولاتنا بابتسامة عذبة وحركات لاتقطع الأمل ..
وكنا نزداد كل يوم غراما بها وولها .. حتى أصبحت شغلنا الشاغل فى هذه المرحلة من حياتنا ..
وكان عبد الحى بعد أن ضبط المدرس وهو يقدم المنبه .. قد أشاع هذه الفضيحة فى المدرسة .. حتى أصبح كل تلميذ يذهب إلى هذه الدروس الخصوصية متنبها .. ينظر إلى المنبه طوال الدرس ..
وكان الأستاذ المالطى يثور ويصيح فى وجوهنا :
ـ لقد صدقتم عبد الحى .. أنا أقدم المنبه .. كيف ..؟ أنه كذاب .. وحمار أيضا .. ولن يتعلم شيئا .. حتى لو درس مائة سنة ..
وكان هذا حقا ، فإن عبد الحى قد ترك المدرسة بعد أن يئس من الكتب .. وانصرف للحياة .. وهو الآن يملك نصف عمارات الضاحية التى أقيم فيها ..
وكان هذا حقا ، فإن عبد الحى قد ترك المدرسة بعد أن يئس من الكتب .. وانصرف للحياة .. وهو الآن يملك نصف عمارات الضاحية التى أقيم فيها ..
وكانت محاولاتنا مع " لوسين " زوجة الأستاذ أو " معشوقته " .. تذهب كلها عبثا .. فقد كنا صبيانا تنقصنا التجارب وفهم المرأة وألاعيبها .. وكانت هى تتزين لنا وتتمخطر فى مشيتها وتكشف عن مفاتنها لتلهب فينا النار .. ولتجعل الجذوة دائما مشتعلة ..
وكان البيت مع توالى الدروس فيه يوميا .. من الرابعة إلى الثامنة مساء .. يبدو ساكنا وكانت معظم نوافذه المطلة على الشارع مغلقة .. فى النهار والليل ..
وكنا نجلس فى الصالة المضاءة دائما بمصباح كهربائى صغير .. حتى رابعة النهار .. فإذا جاء ميعاد الدرس .. دخل كل واحد منا فى دوره إلى حجرة الأستاذ ..
وكنا نرى " لوسين " وهى رائحة وغادية فى البيت .. ترتدى الروب المفتوح وفى فمها السيجارة .. وقد حلت شعرها وتركته ينسدل على كتفيها .. وكانت تحدثنا مبتسمة وعيناها تلمعان .. وتسألنا عن مدى تقدمنا فى الدرس .. وتقلب فى الكتب التى بين أيدينا .. ثم تنساب فى خفة إلى المطبخ لتصنع القهوة ..
وكانت فى أيام الحر اللافحة .. تلف رأسها بفوطة مبلولة .. وتلبس قميصا قصيرا إلى ما فوق الركبة .. وتقول لنا وعيناها ناعستان .. وهى تلعق الثلج :
ـ أننا فى جهنم .. أى حرارة ..
وكنا نود أن تظل هذه الجهنم أبدية .. لنراها فى هذا القميص القصير أبدا ..
وكان زوجها ذلك المالطى .. وقد نسيت أسمه .. كالدرفيل .. ضخما .. بليدا .. كثير النعاس .. غبيا .. ولا أدرى كيف وقع عليها وربما يكون قد اصطادها من البحر على ظهر مركب ..
وكان الأستاذ فى يوم السبت يفرغ من الدروس فى الساعة السابعة لأنه يتعشى مع لوسين فى الخارج ..
وكنا نراها فى ذلك اليوم لابسة أجمل ملابسها .. وقد تزينت كأنها إحدى غادات السينما .. وكانت تكثر من مداعبتنا فى ذلك الوقت والضحك معنا .. حتى يبلغ سرورنا أشده ..
***
وذات مساء انتهيت من الدرس كعادتى .. واتخذت طريقى إلى الخارج .. وكان البيت ساكنا ولم يكن فى الصالة أحد من التلاميذ .. فأدركت أنها آخر حصة .. وفى أثناء اجتيازى الممر إلى الخارج .. سمعت همسا من ناحية المطبخ .. فتلفت ورأيت شبحين هناك .. فاقتربت منهما وعرفت رأس عبد الحى .. وكان يطوق لوسين ويشدها إليه بذراعيه القويتين وهى تذوب بين أحضانه ..
وكانت لوسين هذه فى تمنعها علينا .. بعد أن اشعلت فينا النيران هى التى دفعتنا بعد ذلك بشهر إلى أن نذهب إلى " أثينا " فى حى البغاء .. وكانت أثينا هذه امرأة يونانية ولا أدرى لم اخترناها بالذات ألأن جسمها الأغريقى كان كثير الشبه بجسم لوسين .. أم لأنها كانت تعاملنا برقة .. وتفهم أننا لازلنا صغارا ..
***
وكنا نجلس فى ردهة منزلها فى انتظار دورنا كأننا فى الدرس .. وكان عبد الحى معنا .. وكان يكثر من الشغب والعراك معها .. وكانت تضربه على صدره بيدها وتسبه باليونانية والعربية .. وتظهر أمامنا كأنها تبغضه من كل قلبها ..
وكانت تنعته بالبغل وتبقيه دائما فى الآخر ..
وقد نسيت جسم أثينا الأغريقى وأنا أكتب هذه الصفحات .. ولكن صوتها وهى تتعارك مع عبد الحى لا يزال صداه فى أذنى .. فقد كان خشنا .. أقرب إلى صوت الرجال ..
ولم نعجب حينما عرفنا بعد ذلك بسنوات أن أثينا التى كانت تأخذ من كل واحد منا ريالا .. كانت لا تأخذ شيئا من عبد الحى على الاطلاق لأنه كان رجلها ..
وقد عرفت من هذا الدرس المرأة والحياة ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى 1/8/1954 بمجلة الرسالة الجديدة وأعيد نشرها فى كتاب " العذراء والليل " سنة
1956
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات: